الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ} أي أم أنتم عمي عن المخبر به كما كنتم في الدنيا عميًا عن الخبر والفاء مؤذنة بما ذكر وذلك لأنها لما كانت تقتضي معطوفًا عليه يصح ترتب الجملة أعني سحر هذا عليه وكانت هذه جملة واردة تقريعًا مثل {هذه النار} [الطور: 14] الخ لم يكن بد من تقدير ذلك على وجه يصح الترتب ويكون مدلولًا عليه من السياق فقدّر كنتم تقولون إلى آخره، ودل عليه قوله تعالى: {فِى خَوْضٍ يَلْعَبُونَ} [الطور: 14] وقوله سبحانه: {هذه النار التي كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ} [الطور: 12] وفي (الكشف) إن هذا نظير ما تستدل بحجة فيقول الخصم: هذا باطل فتأتى بحجة أوضح من الأول مسكتة وتقول: أفباطل هذا؟! تعيره بالإلزام بأن مقالته الأولى كانت باطلة، وفي مثله جاز أن يقدر القول على معنى أفتقول باطل هذا وأن لا يقدر لابتنائه على كلام الخصم وهذا أبلغ، و{أَمْ} كما هو الظاهر منقطعة، وفي (البحر) لما قيل لهم: هذه النار وقفوا على الجهتين اللتين يمكن منهما دخول الشك في أنها النار وهي إما أن يكون ثمّ سحر يلبس ذات المرأى، وإما أن يكون في ناظر الناظر اختلال، والظاهر أنه جعل {أَمْ} معادلة والأول أبعد مغزى.{سَوَاء عَلَيْكُمْ} أي الأمران سواء عليكم في عدم النفع إذ كل لا يدفع العذاب ولا يخففه فسواء خبر مبتدأ محذوف وصح الإخبار به عن المثنى لأنه مصدر في الأصل، وجوز كونه مبتدأ محذوف الخبر وليس بذاك، وقوله تعالى: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} تعليل للاستواء فإن الجزاء حيث كان متحتم الوقوع لسبق الوعيد به وقضائه سبحانه إياه بمقتضى عدله كان الصبر ودمه مستويين في عدم النفع. اهـ.
.قال عبد الكريم الخطيب: وقوله تعالى: {يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْرًا وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْرًا} هو بيان لما يقع في هذا اليوم من أحداث تتغير بها معالم الوجود.{يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ} (48: إبراهيم). هذا الانقلاب في عوالم الوجود يوم القيامة.. ما تأويله؟ وهذا الذي يحدث من تغيّرات في معالم الوجود يوم القيامة، هو- واللّه أعلم- نتيجة لتغير مدركات الناس، في هذا اليوم، بانتقالهم من عالم المادة إلى عالم الروح، الأمر الذي يرى فيه الناس بأرواحهم المطلقة من قيد المادة، ما لم يكونوا يرونه في الحياة الدنيا..وهذا يعنى أن اختلاف الرؤية للأشياء من حيث مطالعها، ومن حيث الحواسّ والمشاعر المتعاملة معها، والمتلقّية لها- هو الذي يرى الإنسان هذه التغيّرات التي يراها في نظام الوجود.. تماما، كما يرى الإنسان الأشياء من خلال مجهر، أو من خلال منشور زجاجى، أو جسم شفاف ملون..أو مرآة محدبة أو مقعرة.. ونحو هذا.. إنه يراها في كل مرة على صورة مخالفة لما كان يراها عليه من قبل بعينيه المجردتين، وعلى صورة مباينة أيضا لما يراها عليه من خلال أي شيء من تلك الأشياء.. وهى هي لم تتغير ولم تتبدل، وإن بدت أنها متغيرة متبدلة..والذي يقول به بعض الحكماء والفلاسفة، من أن الموجودات، لا وجود لها في حقيقتها، وإنما هي موجودة بفعل حواسنا، وأنه لولا هذه الحواس، لما كان لها وجود.. ويضربون لهذا أمثلة، بأن فاقد البصر أصلا ينكر وجود النور، كما أن فاقد حاسّة الشمّ يغيب من عالمه عالم المشمومات.. وقلّ مثل هذا في بقية الحواس، من اللمس والذوق، والسمع- نقول إن هذا الذي يقول به بعض الحكماء والفلاسفة، يشير إلى شيء من هذا الذي نتحدث عنه من أن الاختلاف الذي يقع في حواسنا للموجودات، بين ما نراه منها في الدنيا، وما نراه منها في الآخرة هو من عمل حواسنا، وإن كنا نخالفهم فيما يذهبون إليه من إنكار الموجودات أصلا.. فإن إنكار هذه الموجودات يستلزم- تبعا لهذا- إنكار وجودهم هم أنفسهم، وإنكار هذه المقررات التي يقررونها.. فإن فقد العضو أو فقد وظيفته لا يستتبع فقد الوجود الخارجي للموجودات، التي كان من شأن العضو أن يتعامل معها، كما أن فقد الميت إحساسه بوجوده، لا ينفى أنه موجود بجسمه الذي يراه الأحياء المحيطون به..وأحقّ من هذا، وأقرب إلى الصواب، أن يقال إن الأشياء هي التي تحقق للحواس والمدركات وجودها، لا أن الحواس والمدركات هي التي توجد الموجودات التي تتعامل معها..ونعود إلى الحديث عما يقع يوم القيامة، من انقلاب في عالم الموجودات..أهذا الانقلاب واقع حقيقة، أم هو من عمل الحواس الجديدة التي يعيش بها الإنسان في العالم الآخر؟..يتحدث القرآن الكريم في أكثر من موضع، عن انفطار السماء، وانتثار الكواكب، وانطماس النجوم، وانكدارها، وتفجّر البحار، ودكّ الأرض والجبال، إلى غير ذلك مما يحدّث عن هذا الانقلاب الشامل الهائل الذي بغير معالم الأرض والسماء جميعا..فيقول سبحانه وتعالى..{إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} (1- 5: الانفطار) ويقول جل شأنه: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ} (1- 3: التكوير) ويقول سبحانه: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} (4- 5: القارعة) ويقول سبحانه: {يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ} (8- 9: المعارج) ويقول جل شأنه: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجًا وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْوابًا وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَرابًا} (18- 20: النبأ).. ويقول سبحانه: {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ} (8- 10: المرسلات) ويقول سبحانه: {فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يَقول الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ} (7- 10: القيامة) ويقول سبحانه: {فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ} (13- 16: الحاقة)..والذي ينظر في هذه الآيات الكريمة، يجد أنها تتحدث عن عوالم ثلاثة، يقع عليها التغيير والتبديل من أحداث القيامة..العالم العلوىّ، والعالم الأرضى، والعالم الإنسانىّ..ففى العالم العلوىّ: تنفطر السماء، وتنتثر الكواكب، وتتكور الشمس، وتنكدر النجوم، وتنفرج السماء، وتتشقق، ويخسف القمر، ويجمع الشمس والقمر..وفى العالم الأرضى: تنفجر البحار، وتسيّر الجبال، وتكون كالعهن المنفوش، وتنسف نسفا، وتدكّ دكا..وفى عالم الإنسان: تبعثر القبور، ويكون الناس كالفراش المبثوث، وتبرق أبصارهم، ويتدافعون أفواجا إلى المحشر..البعث.. وعلى أية صورة يكون؟فإذا أخذنا جانب الإنسان، وهو الذي تقع لعينيه هذه الأحداث التي تكون يوم القيامة، وجدنا أنه قد تغيّر فعلا، تغيرا يتناول طبيعته، كما يتناول الموقف الذي يرى الوجود منه..فهو من حيث طبيعته، قد صار كائنا روحانيا، محلّقا فوق هذا العالم الأرضى، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ} (4: القارعة).. فالفراش حشرة طائرة، لطيفة الهيئة، دقيقة الجرم، هشة الجسم، تكاد تنخلع عن جسدها، وهى طائرة..ومن إعجاز القرآن الكريم هنا أن الفراشة تمثّل الدورة الإنسانية كلها، من مولده، إلى مماته، إلى مبعثه من قبره، إلى طيرانه إلى محشره..فهى تكون بيضة.. على حين يكون الإنسان نطفة.ثم تكون دودة.. على حين يكون الإنسان وليدا، يتحرك في الحياة، أشبه بالدودة، ثم تكون عذراء داخل الشرنقة.على حين يكون الإنسان مقبورا في جدثه..ثم تخرج من الشرنقة فراشة على حين يكون الإنسان قد خرج من قبره، كما تخرج الفراشة من الشرنقة، وقد تخلّقت لها أجنحة تسبح بها في الفضاء! ثم ماذا؟ وماذا؟ وماذا؟لا جواب الآن.. إن القلم يضطرب في يدى، لما تملكنى من روعة هذا الجلال، ولما أخذنى من وجد ونشوة حيال هذا الإعجاز، الذي ألمح سنا برقه من بعيد، وأنا لا زلت على شاطىء هذا البحر الذي لا يحدّه البصر! وإنّى لأبخس نفسى حظّها، إن أنا انتزعتها الآن من هذه الحال التي لبستها من غبطة وحبور، في هذا المقام الكريم، لأصوّر بالقلم بعض ما ترى من جلال وروعة، ولأمسك ببعض ما وقع في الخاطر من رؤى ومشاهد بين يدى هذه المعجزة الباهرة القاهرة..فلتأخذالنفس إذن حظها من تلك النشوة، وليرتشف القلب كأس هذه الخمر السماوية، قطرة قطرة.. حتى يرتوى!! فإذا كان لنا في غد صحوة من هذا الانتشاء، وإذا كان لنا في العمر غد نعيش فيه- كان لنا عودة إلى هذا الموقف، وكان لنا نظر مجدّد في تلك المعجزة، وكان لنا قول فيما يؤدّى إليه هذا النظر..فإلى غد- إن شاء اللّه- وإلى ما يأذن اللّه لنا به، من فضله وإحسانه، حتى يستقيم للقلم طريقه، ويجد اليد القادرة على الإمساك به، والسيطرة على زمامه.. وكان صباح.... وكان مساء..!وجاء صباح يوم آخر.. وقد هدأت موجات الجلال التي غشيت النفس بالأمس، وهأنذأ أمسك بالقلم، ولكن لا أجد شيئا مما كان يملأ صدرى من خواطر وتصورات!! فأين ذهب كل هذا؟ إنى لا أكاد أذكر شيئا مما كنت فيه بالأمس، بل لا أكاد أذكر فيم كنت.. وأحسب أن الأمر يحتاج إلى معاودة النظر في الآية الكريمة، نظرا مجدّدا يستجيش المشاعر، ويحرّك المدارك، ويبعث من جديد هذه النشوة التي خمدت، أو كادت..ومن النظر في وجه الآية الكريمة: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ} تجد أن تشبيه الناس بالفراش المبثوث- كما أشرنا إلى ذلك من قبل- يمثل أكمل تمثيل وأدقه تلك الصورة التي يكون عليها الناس يوم القيامة، وأن حياة الفراشة من بدئها إلى نهايتها تمثّل حياة الإنسان من حال كونه نطفة إلى أن يولد، وينمو، ويقطع مسيرته في الحياة الدنيا، ثم إلى أن يموت، ثم يبعث في هيئة فراشة، كانت بيضة، ثم دودة، ثم عذراء ملففة في أكفان من الشرنقة، ثم تنشق عنها الشرنقة، فإذا هي فراشة!..هذا ما وقفنا عنده- على ما أذكر- من قبل..الناس إذن يكونون يوم القيامة كالفراش المبثوث- فحين يخرجون من الأجداث يطيرون في خفّة كما يطير الفراش المنطلق نحو النور والنار!..ولكن إلى أين يطير هذا الفراش الآدمي؟وإلى أين يطير الفراش الحشرى إذا رأى نارا، أو أحس ضوءا؟إنه لا وجهة له حينئذ إلا هذه النار وهذا الضوء!! وكذلك الناس، أو الفراش البشرى، لا مورد لهم إلا هذه النار التي سعّرت وتأججت.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} (71: مريم).وما مصير هذا الفراش الحشرى المتدافع إلى النار؟ إنه يتقحمها، ويلقى بنفسه فيها، وكأنّ يدا قوية تدفعه إليها دفعا ليكون وقودا لها.. وقليل قليل هو الذي ينجو بنفسه، ويعدل بوجهه عن لهيبها..كذلك شأن الفراش البشرىّ الوارد على نار جهنم، إنه وقود هذه النار إلا قليلا قليلا ممن أنجاهم اللّه منها، وكتب لهم الفوز بجنات النعيم، كما يقول سبحانه: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا} (72: مريم)..فهذا القليل هو الذي يقف في منطقة النور دون أن يتقحم النار..وأما الكثير الغالب، فإنه يغشى في هذا الضوء فيهوى في جهنم.. إنه أعمى لا يرى إلى أين مساقه، لأنه حشر على ما كان في الدنيا من عمى: {قال رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قال كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى}.. فالهلكى في الآخرة كثيرون، والناجون قليل بل وأقل من القليل!! وأكاد أقول إن الناس سيكونون يوم القيامة على صورة الفراش حقيقة لا تشبيها، وذلك لهذا التوافق العجيب الدقيق بين الصورتين،- صورة الفراش الحشرى، وصورة الفراش البشرى- في الملامح، والألوان، والظلال..ويتأكد هذا المفهوم، إذ نجد القرآن الكريم يلتزم هذا التشبيه في معرض آخر، من معارض البعث والنشور، فيقول سبحانه: {يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقول الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ} (7- 8: القمر)..فالجراد المنتشر، والفراش المبثوث.. صورتان متماثلتان في مرأى العين، وفى أطوار الحياة التي يتنقل فيها كلّ من الفراش والجراد!.فالجراد يأخذ في خلقه وتطوره نفس المراحل التي يقطعها الفراش في مسيرة الحياة..البيضة، فالدودة، فالعذراء، فالفراشة التي تطير..(والفراش) كائن لطيف، رقيق، يكاد يكون من عالم الروح أكثر منه من عالم المادة..وأما (الجراد)- وإن كان أكثر كثافة من الفراش، فإن أجنحته- الكبيرة القويّة، تغلب كثافة جسده، فيطير بخفة أشبه بخفة الأرواح..وفى الجمع بين الفراش المبثوث، والجراد المنتشر، تصوير معجز للصورة التي يبعث عليها الناس يوم القيامة..ففى الناس: فراش، وجراد.. في الدنيا وفى الآخرة..فالمؤمنون، يمثلون الفراش.. في لطفه، ورقته، ووداعته، ومواقعه في في الحياة، وتناوله من رحيق أزهارها، وطيّب ثمارها.. حيث هم زينة هذه الحياة الدنيا، وحيث لا يقع منهم أذّى على أحد، أو عدوان على شىء، بيد أو لسان..والكافرون، والضالون، يمثلون الجراد في نهمه، وشراسته، وعدوانه على مواقع الخصب، فيفسدها، وو يحيلها جدبا..وهكذا يبعث الناس، على ما كانوا عليه في الدنيا، من كان منهم على صورة الفراش، في اللطف، والوداعة، بعث على صورة الفراش، ومن كان منهم على هيئة الجراد، في الشراسة والنّهم، بعث على هيئة الجراد..وأكثر من هذا، فإن الفراش قلّة قليلة بالنسبة لأعداد الجراد الكثيرة التي تتكاثر مواليدها وتتضاعف بين ساعة وأخرى.. وكذلك المؤمنون هم قلة في محيط الكافرين، والمشركين.. وهذا ما نامحه في قوله تعالى في وصف كل من الفراش والجراد.. فقد جاء وصف الفراش، بالبثّ: {كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ}.. والبث، هو إذاعة الحديث الطيب في رفق، وعلى هينة، ولطف.. وجاء وصف الجراد بالانتشار: {كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ} والانتشار، إنما يكون في سرعة مجنونة، كما ينتشر الوباء في الناس، وكما تنتشر النار في الهشيم..!ويكاد يصرفنا هذا الموقف الرائع المعجز، عن الموضوع الذي نعالجه، بل إنه ليكاد يغنينا عن النظر إلى ما وراءه، لما نالت النفس منه، من شبع ورىّ! ولكن وفاء بحق هذا البحث، نعود فنقول:إنه بالنظر في حال للإنسان يوم القيامة، نجد في قوله تعالى عن هذا الإنسان يوم القيامة: {فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ}- نجد في هذا إشارة إلى ما يقع لبصر الإنسان من تحول، يزداد به قوة خارقة في مجال الرؤية، حيث يامع كما يامع البرق، فيكشف بنوره المنبعث منه حقائق الأشياء، وينفذ إلى الصميم منها، وكأنه يراها لأول مرة، رؤية جديدة، تبدو فيها المفارقة بعيدة، بين ما يراها عليه الآن، وبين ما كان يراها عليه في الحياة الدنيا.. وفى هذا يقول اللّه تعالى: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} (22: ق).
|